فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا الاحتمال وإن كان مدفوعا عن السورة الواحدة من القرآن أيضا التى يقصدها الخصم بالمعارضة فإنها كلام بليغ مشتمل على معان حقة ذات صفات كريمة خالية عن مادة الكذب، وما هذا شأنه لا يقع عن مجرد الاتفاق والصدفة من غير أن يكون مقصودا في نفسه ذا غرض يتعلق به الإرادة.
إلا أنه أعنى ما مر من احتمال الاتفاق والصدفة عن السور المتعددة أبعد لأن إتيان السورة بعد السورة وبيان الغرض بعد الغرض والكشف عن خبيئ بعد خبيئ لا يدع مجالا لاحتمال الاتفاق والصدفة وهو ظاهر.
إذا تبين ما ذكرناه ظهر أن من الجائز أن يكون التحدي بمثل قوله: {قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} أسرى: 88 واردا مورد التحدي بجميع القرآن لما جمع فيه من الاغراض الإلهية ويختص بأنه جامع لعامة ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة؛ وقوله: {قل فأتوا بسورة مثله} لما فيها من الخاصة الظاهرة وهى أن فيها بيان غرض تام جامع من أغراض الهدى الإلهى بيانا فصلا من غير هزل؛ وقوله: {قل فأتوا بعشر سور} تحديا بعشر من السور القرآنية لما في ذلك من التفنن في البيان والتنوع في الاغراض من جهة الكثرة، والعشرة من ألفاظ الكثرة كالمأة والألف.
قال تعالى: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} البقرة: 9.
فالمراد بعشر سور- والله أعلم- السور الكثيرة الحائزة لبعض مراتب الكثرة المعروفة بين الناس فكأنه قيل: فأتوا بعدة من سورها ولتكن عشرا ليظهر به أن تنوع الاغراض القرآنية في بيانه المعجز ليس إلا من قبل الله.
وأما قوله: {فليأتوا بحديث مثله} فكأنه تحد بما يعم التحديات الثلاثة السابقة فإن الحديث يعم السورة والعشر سور والقرآن كله فهو تحد بمطلق الخاصة القرآنية وهو ظاهر.
بقى هنا أمران أحدهما: أنه لم يقع في شيء من آيات التحدي المذكورة توصيف ما يأتي به الخصم بالافتراء إلا في هذه الآية إذ قيل فيها: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} بخلاف قوله: {فأتوا بسورة مثله} فلم يقل فيه: {فأتوا بسورة مثله مفتراة} وكذا في سائر آيات التحدي.
ولعل الوجه في ذلك أن نوع العناية في الآية المبحوث عنها غير نوع العناية في سائر آيات التحدي فإن العناية في سائر الآيات متعلقة بأنهم لا يقدرون على الاتيان بمثل القرآن أو بمثل السورة لما أنه قرآن مشتمل على جهات لا تتعلق بها قدرة الإنسان ولا يظهر عليها غيره تعالى وقد أطلق القول فيها إطلاقا.
وأما هذه الآية فلما عقبت بقوله: {فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} دل ذلك على أن التحدي فيها إنما هو بكون القرآن متضمنا لما يختص علمه بالله تعالى ولا سبيل لغيره إليه، وهذا أمر لا يقبل الافتراء بذاته فكأنه قيل: إن هذا القرآن لا يقبل بذاته افتراء فإنه متضمن لامور من العلم الإلهى الذى لا سبيل لغيره تعالى إليه، وإن ارتبتم في ذلك فأتوا بعشر سور مثله مفتريات تدعون أنها افتراء، واستعينوا بمن استطعتم من دون الله فإن لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من العلم المخصوص به تعالى.
فافهم ذلك.
وثانيهما: معنى التحدي بالمثل حيث قيل: {بمثل هذا القرآن} {بحديث مثله} {بسورة مثله} {بعشر سور مثله} والوجه الظاهر فيه أن الكلام لما كان آية معجزة فلو أتى إنسان بما يماثله لكفى في إبطال كونه آية معجزة ولم يحتج إلى الاتيان بما يترجح عليه في صفاته ويفضل عليه في خواصه.
وربما يورد عليه أن عدم قدره غيره صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك لا يدل على كونه معجزة غير مستندة إليه لأن صفات الكمال التى توجد في النوع الإنساني كالبلاغة والكتابة والشجاعة والسخاء وغيرها لها مراتب متفاوتة مختلفة يفضل بعضها على بعض، وإذا كان كذلك كان من المراتب ما هو فوق الجميع وهو غاية ما يمكن أن ترتقى إليه النفس الإنسانية البتة.
فكل صفة من صفات الكمال يوجد بين الافراد الموصوفين بها من هو حامل للدرجة العليا والغاية القصوى منها بحيث لا يعدله غيره ولا يعارضه أحد ممن سواه فبالضرورة بين أفراد الإنسان عامة من هو أبلغهم أو أكتبهم أو أشجعهم أو أسخاهم كما أن بينهم من هو أطولهم قامة وأكبرهم جثة، ولم لا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفصح الناس جميعا وأبلغهم والقرآن من كلامه الذى لا يسع لاحد أن يعارضه فيه لوقوفه موقفا ليس لغيره فيه موضع قدم؟ فلا يكون عندئذ عجز غيره عن الاتيان دليلا على كونه كلاما إلهيا غير بشرى لجواز كونه كلاما بشريا مختصا به صلى الله عليه وآله وسلم مضنونا عن غيره.
هذا ويدفعه أن الصفات الإنسانية التى يقع فيها التفاضل وإن كانت على ما ذكر لكنها أياما كانت فهى مما تسمح بها الطبيعة الإنسانية بما أودع الله فيها من الاستعداد من غير أن تنشأ عن اتفاق ومن غير سبب يمكن الفرد الموصوف من الاتصاف بها.
وإذا كان كذلك وفرض فرد من الإنسان اختص بصفة فاضلة لا يعدله غيره ولا يفوقه سواه كان لغيره أن يسلك ما مهده من السبيل ويتعود بالتمرن والتدرب والارتياض بما يأتيه من الأعمال التى تصدر عما عنده من صفة الكمال فيأتى بما يماثل بعض ما يختص به من الكمال ويقلده في نبذه من أعماله وان لم يقدر على أن يزاحمه في الجميع ويماثله في الكل، ويبقى للفرد النابغ المذكور مقام الاصالة والسبقة والتقدم في ذلك فالحاتم مثلا وإن كان هو المتفرد غير المعارض في سخائه وجوده من غير أن يسع غيره أن يتقدم عليه ويسبقه لكن من الممكن أن يرتاض مرتاض في سبيله فيتمرن ويتدرب فيه فيأتى بشئ من نوع سخائه وجوده وان لم يقدر على مزاحمته في الجميع وفي أصل مقامه، والكمالات الإنسانية التى هي منابع للاعمال سبيلها جميعا هذا السبيل، ويتمكن الإنسان بالتمرن والتدرب على سلوك سبيل السابقين المبدعين فيها والاتيان بشئ من أعمالهم وإن لم يسع مزاحمتهم في أصل موقفهم.
فلو كان القرآن من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فرض أنه أبلغ إنسان وأفصحه كان من الجائز أن يهتم غيره فيتمرن على سلوك ما أبدعه في كلامه من النظم البديع فيقدر على تقليده في شيء من الكلام وإتيان شيء من القول بسورة مثله وإن لم يقدر على تقليد القرآن كله والاتيان بجميعه.
ولم يقل فيما تحدى به: فليأتوا بحديث أبلغ منه أو أحسن أو بسورة هي أبلغ أو أحسن حتى يقال: إن القرآن أبلغ كلام بشرى أو أحسنه ليس هناك ما هو أبلغ أو أحسن منه حتى يأتي به آت فلا يدل عدم القدرة على الاتيان بذلك على كونه كلاما لغير البشر، بل إنما قال: {فليأتوا بحديث مثله} {قل فأتوا بسورة مثله} وهكذا وفي وسع البشر الاتيان بمثل كلام غيره من البشر وإن فرض كون ذلك الغير ذا موقف من الكلام لا يعارضه غيره على ما بيناه فالشبهة مندفعة بقوله تعالى: {مثله}.
قوله تعالى: {فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون} إجابة الدعوة واستجابتها بمعنى.
والظاهر من السياق ان الخطاب في الآية للمشركين، وأنه من تمام كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذى أمر بقوله تعالى: {قل} أن يلقيه إليهم، وعلى هذا فضمير الجمع في قوله: {لم يستجيبوا} راجع إلى الالهة وكل من استعانوا به المدلول عليهم بقوله: {وادعوا من استطعتم من دون الله}.
والمعنى: فإن لم يستجب لكم معاشر المشركين هؤلاء الذين دعوتموهم من آلهتكم ومن بلغاء أهل لسانكم العارفين بأساليب الكلام وعلماء اهل الكتاب الذين عندهم الكتب السماوية وأخبار الأنبياء والأمم والكهنة المستمدين من إلقاء شياطين الجن، وجهابذة العلم والفهم من سائر الناس المتعمقين في المعارف الإنسانية بأطرافها فاعلموا أنما أنزل هذا القرآن بعلم الله ولم يختلق عن علمي أنا ولا غيرى ممن تزعمون أنه يعلمنى ويملى على، واعلموا أيضا ان ما ادعوكم إليه من التوحيد حق فإنه لو كان هناك إله من دون الله لنصركم على ما دعوتموه إليه فهل انتم ايها المشركون مسلمون لله تعالى منقادون لامره؟ فقوله تعالى: {فإن لم يستجيبوا لكم} في معنى قولنا: فإن لم تقدرو على المعارضة بعد الاستعانة والاستمداد بمن استطعتم أن تدعوهم من دون الله، وذلك أن الأسباب التى توجب قدرتهم على المعارضة هي ما عندهم من قدرة البيان وقريحة البلاغة وهم يرون أن ذلك من مواهب آلهتهم من دون الله وكذا ما عند آلهتهم مما لم يهبوهم بعد، ولهم أن يؤيدوهم به إن شاءوا على زعمهم، وأيضا ما عند غير آلهتهم من المدد، وإذا لم يستجبهم الذين يدعونهم في معارضة القرآن فقد ارتفع جميع الأسباب الموجبة لقدرتهم وارتفعت بذلك قدرتهم فعدم إجابته الشركاء على معارضة القرآن ملازم لعدم قدرتهم عليها حتى بما عند أنفسهم من القدرة ففى الكلام كناية.
وقوله: {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} الظاهر أن المراد بعلم الله هو العلم المختص به وهو الغيب الذى لا سبيل لغيره تعالى إليه إلا بإذنه كما قال تعالى: {لكن الله يشهد بما أنزل اليك أنزله بعلمه} النساء: 166، وقال: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك} يوسف: 102، وقال: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول} الجن: 27، وقال: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين} الواقعة: 80.
فالمعنى: فإن لم تقدروا على معارضته بأى سبب ممد تعلقتم به من دون الله فتيقنوا أنه لم ينزل إلا عن سبب غيبي وأنه من أنباء الغيب الذى يختص به تعالى فهو الذى أنزله على وكلمني به وأراد تفهيمى وتفهيمكم بما فيه من المعارف الحقة وذخائر الهداية.
وذكر بعضهم أن المراد به أنه إنما أنزل على علم من الله بنزوله وشهادة منه له، وذكر آخرون أن المراد أنه إنما أنزل بعلم من الله أنه لا يقبل المعارضة أو بعلم من الله بنظمه وترتيبه ولا يعلم غيره ذلك، وهذه معان واهيه بعيدة عن الفهم.
والجملة أعنى قوله: {أنما أنزل بعلم الله} احدى النتيجتين المأخوذتين من عدم استجابة شركائهم لهم.
والنتيجة الاخرى قوله: {وأن لا إله إلا هو} ولزوم هذه النتيجة من وجهين: احدهما: أنهم إذا دعوا آلهتهم لما يهمهم من الأمور فلم يجيبوهم كشف ذلك عن أنهم ليسوا بالهة فليس الإله إلا من يجيب المضطر إذا دعاه وخاصة إذا دعاه لما فيه نفع الإله المدعو فإن القرآن الذى أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقطع دابرهم ويميت ذكرهم ويصرف الناس عن التوجه إليهم فإذا لم يجيبوا أولياءهم اذادعوهم لمعارضة كتاب هذا شأنه كان ذلك من اوضح الدليل على نفى ألوهيتهم.
وثانيهما: أنه إذا صح ان القرآن حق نازل من عند الله صادق فيما يخبر به، ومما يخبر به أنه ليس مع الله إله آخر علم بذلك أنه لا إله إلا الله سبحانه.
وقوله: {فهل أنتم مسلمون} أي لما علمتم واتضح لكم من جهة عدم استجابة شركائكم من دون الله وعجزكم عن المعارضة فهل أنتم مسلمون لما وقع عليه علمكم هذا من توحيد الله سبحانه وكون هذا القرآن كتابا نازلا بعلمه؟ وهو أمر بالإسلام في صورة الاستفهام.
هذا كله ما يقتضيه ظاهر الآية.
وقيل: إن الخطاب في قوله: {فإن لم يستجيبوا لكم} إلخ، للنبى صلى الله عليه وآله وسلم خوطب بلفظ الجمع تعظيما له وتفخيما لشأنه وضمير الجمع الغائب راجع إلى المشركين أي فإن لم يستجب المشركون لما دعوتهم أيها النبي إليه من المعارضة فاعلم أنه منزل بعلم الله وأن الله واحد فهل أنت مسلم لامره.
وفيه أنه قد صح أن التعظيم بلفظ الجمع والكثرة يختص في الكلام العربي بالمتكلم واما الخطاب والغيبة فلا تعظيم فيها بلفظ الجمع.
مضافا إلى ان استناد الوحى الإلهى والتكليم الربانى إليه تعالى استناد ضروري لا يقبل الشك حتى يستعان عليه بالدليل فما يتلقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم دلالته على كونه كلاما من الله دلالة ضرورية غير محتاجة إلى حجة حتى يحتج عليه بعدم إجابة المشركين إلى معارضة القرآن وعجزهم عنها بخلاف كلام المخلوقين من الإنسان والجن والملك وأى هاتف آخر فإنه يحتاج في حصول العلم باستناده إلى متكلمه إلى دليل خارجي من حسن أو عقل، وقد تقدمت إشارة إلى ذلك في قصة زكريا من سورة آل عمران، وسيجئ البحث المستوفى عن ذلك فيما يناسبه من المورد إن شاء الله تعالى.
على أن خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثل قوله: {وأنه لا إله إلا هو}، وقوله: {فهل أنتم مسلمون} لا يخلو عن بشاعة.
على أن نفس الاستدلال أيضا غير تام كما سنبين.
وقيل: إن الخطاب في الآية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين جميعا أو للمؤمنين خاصة لأن المؤمنين يشاركونه صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة الدينية والتحدى بالقرآن الذى هو كتاب ربهم المنزل عليهم والمعنى: فإن لم يستجب المشركون لكم في المعارضة فاعلموا أن القرآن منزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل تسلمون أنتم لله؟ ولما تفطن بعضهم أن لا معنى لدعوة المؤمنين وهم مؤمنون بالله وحده وبكتابه إلى العلم بأنه كتاب نازل من عند الله وبأنه تعالى واحد لا شريك له أصلحه بأن المراد فاثبتوا على علمكم أنه إنما أنزل بعلم الله وازدادوا به ايمانا ويقينا وأنه لا إله إلا هو ولا يستحق العبادة سواه فهل أنتم ثابتون على إسلامكم والاخلاص فيه؟ وفيه أنه تقييد للاية من غير مقيد والحجة غير تامة وذلك أن المشركين لو كانوا وقفوا موقف المعارضة بما عندهم من البضاعة واستعانوا عليها بدعوة آلهتهم وسائر من يطمعون فيه من الجن والانس ثم عجزوا كان ذلك دليلا واضحا يدلهم على أن القرآن فوق كلام البشر وتمت بذلك الحجة عليهم، وأما عدم استجابة الكفار للمعارضة فليس يدل على كونه من عند الله لانهم لم يأتمروا بما أمروا به بقوله: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} إما لعلمهم بأنه كلام الله الحق وإنما كان قولهم: {افتراه} قولا ناشئا عن العناد واللجاج لا عن إذعان به أو شك فيه، أو لانهم كانوا آئسين من استجابة شركائهم للدعوة على المعارضة، أو لانهم كانوا هازلين في قولهم ذلك يهذرون هذرا.
وبالجملة عدم استجابة المشركين للنبى صلى الله عليه وآله وسلم أو للمؤمنين أو لهم جميعا لا يدل بنفسه على كون القرآن نازلا من عند الله إلا إذا كان عدم الاستجابة المذكورة بعد تحقق دعوتهم شركاءهم إلى المعارضة وعدم استجابتهم لهم، ولم يتحقق من المشركين دعوة على هذه الصفة، ومجرد عدم استجابة المشركين انفسهم لا ينفع شيئا، ولا يبقى إلا أن يقال: إن معنى الآية: فإن دعا المشركون من استطاعوا من دون الله فلم يستجيبوا لهم ولم يستجب المشركون لكم أيها النبي ومعاشر المؤمنين فاعلموا أنما أنزل بعلم الله إلخ، وهذا هو الذى أومأنا إليه آنفا أنه تقييد للاية من غير مقيد.
على أن فيه امرا للمؤمنين أن يهتدوا في إيمانهم ويقينهم بأمر فرضى غير واقع وكلامه تعالى يجل عن ذلك، ولو أريدت الدلالة على أنهم غير قادرين على ذلك وإن دعوا شركاءهم إلى المعارضة كان من حق الكلام أن يقال: فإن لم يستجيبوا لكم ولن يستجيبوا فاعلموا إلخ، كما قيل كذلك في نظيره قال تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التى وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} البقرة: 24. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}
{أم} هذه منقطعة بمعنى (بل) التي للإضراب للانتقال من غرض إلى آخر، إلاّ أن (أم) مختصة بالاستفهام فتقدر بعدها همزة الاستفهام.
والتقدير: بل أيقولون افتراه.
والإضراب انتقالي في قوة الاستئناف الابتدائي، فللجملة حكم الاستئناف.
والمناسبة ظاهرة، لأن الكلام في إبطال مزاعم المشركين، فإنهم قالوا: هذا كلام مفترى، وقرعهم بالحجة.
والاستفهام إنكاري.
والافتراء: الكذب الذي لا شبهة لصاحبه، فهو الكذب عن عمد، كما تقدم في قوله: {ولكن الذين كفَرُوا يفترون على الله الكذب} في سورة [العقود: 103].